اعمدة الرأي

☘️🌹☘️ *همس الحروف* *الإعلان بالنشر عن المتهمين بين مشروعية الإجراء و تقنين التشهير* ✍️ *د. الباقر عبد القيوم علي*

☘️🌹☘️

*همس الحروف*
*الإعلان بالنشر عن المتهمين بين مشروعية الإجراء و تقنين التشهير*
✍️ *د. الباقر عبد القيوم علي*

 

النصوص القانونية في بلادنا لم تكن في عهود سابقة تغفل عن الأثار البالغة و الخطيرة التي تترتب من جراء الإعلان بالنشر عن المتهمين (الهاربين) ، و لذلك تم وضع ضوابط صارمة تحول دون الانزلاق بهذا الإجراء إلى أداة للبطش أو وسيلة للتشهير الممنهج ، إذ أن المشرع إستبطن قاعدة ذهبية مفادها أن الإعلان بالنشر يمكن أن يلحق ضرراً بليغاً بسمعة الفرد الذي يتم إعلانه بالنشر ، و أن أثاره لا تسقط في المستقبل ، حتى و إن ثبتت براءته لاحقاً ، خصوصاً في بلد كهذا يئن بالجهلاء ، و حارقي الشخصيات لأسباب معلومة أو لإشباع نفوسهم المريضة ، و من هذا المنطلق ، تم إحكام الضوابط في هذا الإجراء الذي يعتبر سلاح ذو حدين ، و لهذا من الواجب ألا تتم ممارسته إلا في أضيق نطاق ، و على يد أعلى سلطة قضائية أو نيابية بالولاية .

لم يكن مسموحاً حتى لقاضي المحكمة الكبرى في (أي محلية) ، و هو القادر على توقيع أقصى عقوبة ، و هي الحكم الإعدام ، أن يُصدر أمر النشر لإعلان متهم ، و ذلك تحصين لخصوصية الأفراد و حمايتهم من التشهير . و لذلك تم إقتصار هذا الحق في حيز ضيق جداً ، في إطار السلطة التقديرية لقاضي الولاية الأعلى او رئيس النيابة الأعلى بالولاية ، في لفتة قانونية تنم عن إدراك عميق لخطورة هذا المسلك الإجرائي . وهذا لم يكن احترازاً شكلياً ، بل هو جوهر حماية الحقوق الفردية وضمانة لقرينة البراءة المرجحة ، خصوصاً في الجرائم المبنية على الظن والتقدير الظني للبينات .

و لهذا لا يتم الإقدام على نشر إعلان عن متهم هارب إلا بعد التيقن من هروبة فعلاً و ليس ظناً ، أو فقط لتقاعس من الشرطة في ضبطه و إحضاره ، و يجب على القاضي الأعلى أو وكيل النيابة الأعلى أن يتيقن بنفسه من أن الشرطة قد استنفدت كافة وسائلها وجهودها في القبض على المتهم ، و أصبح لا سبيل إلا بالنشر .

و لكن للأسف أن هذا الفهم القانوني الرشيد يجرى تغييبه في كثير من الأحيان ، و هذا التغييب جاء بعد سقطوط بعض الأجهزة او الذين يديرونها في مستنقع التسييس ، أو التوظيف الانتقامي للإجراءات .

فأصبحنا نشهد النشر في الصحف كما تنشر الإعلانات التجارية ، دون مراعاة لأثر ذلك على سمعة الأفراد و أسرهم ، و لم يراعى لحقوقهم الدستورية أبداً ، فإن التشهير بالمتهم ، قبل أن تثبت إدانته لا يعد تجاوزاً قانونياً فقط ، بل يعتبر انتهاكاً أخلاقياً ، و قيمياً و مجتمعياً ، و سيدمر الثقة في مؤسسات العدالة لاحقاً .

نريد فتوى قانونية من جميع أهل الإختصاص ، هل يجوز النشر عبر وسائل الإعلام المفتوحة و المفضوحة في ظل غياب الصحف الورقية ؟

إذا أجاز المشرع النشر في الصحف الورقية بموجب القانون ، فهل التوسّع في تفسير ذلك ليشمل الوسائط المفتوحة كالمنصات الرقمية و وسائل التواصل الاجتماعي ؟ .. إن هذا الأمر يعد أمراً خطيراً ، لأن وسائل النشر الجديدة لا تضبطها معايير قانونية واضحة المعالم و كما يمكن نسخ محتواها و لصقه في الفضاءات الإسفيرية المفضوحة و الواسعة الإنتشار ، و الإضافة عليها و الحذف منها حسب المزاج ، مما يجعل أثرها أوسع ، وضررها أبلغ ، و انتشارها أسرع .

ولذا ، فإن أي تفسير موسع لمفهوم النشر الشامل لهذه الوسائط يتطلب تعديلاً تشريعياً صريحاً يضبط هذا التوسع ، أو فتوى قانونية من جهة الاختصاص ، كوزارة العدل أو المحكمة الدستورية تبين حدود هذا الإجراء وضماناته ، دون أن يترك لمزاج الجهة المنفذة .

هنالك جهة أقدمت على إصدار إعلان متهم معلوم العنوان ، له هاتف معروف ، و هو موجود داخل البلد ، و وكيله القانوني معتمد لدى الجهة التي أصدرت قرار النشر ، إلأ ان الشرطة في مرحلة ما أخفت التوكيل لشيء في نفس يعقوب ، مما يثير ذلك تساؤلات جوهرية حول مدى احترام الإجراءات القانونية ، و الضمانات الدستورية في التعامل مع الأفراد ، فإذا كان المتهم متواجداً في مدينة خارجة عن السيطرة الرسمية ، و تقع تحت سيطرة المليشيا ، بحيث لا يستطيع هذا المتهم مغادرتها خشية على حياته ، فهل يعقل (قانوناً و أخلاقاً) أن يعامل معاملة (الهارب) ؟! ، وهل صار الخوف على الحياة عذراً لا يُعتد به ؟! .. كل هذه التساؤلات مشروعة تطرح نفسها ، و تحتاج لإجابة صريحة .

و إذا كانت الجهة التي أصدرت أمر النشر ذاتها لا تجرؤ على دخول تلك المدينة لذات الأسباب ، فبأي منطق قانوني أو أخلاقي تحمّل المتهم ما عجزت هي نفسها عن فعله ؟! ، وإذا كان بالإمكان التواصل مع المتهم هاتفياً ، أو عبر وكيله القانوني في المدينة الآمنة ، فما الحاجة إذن إلى هذا الإجراء الفضائحي ؟! ، إن هذه الممارسات تُفرغ القانون من روحه، و محتواه ، وتحوله من أداة للعدالة إلى وسيلة للظلم و التشهير ، و هذا الامر ستعلنه للملأ بالتفاصيل الدقيقة في القريب العاجل ، و نرجو من الجهات العدلية وقفة جادة ، ومراجعة صارمة لمدى مشروعية هذه القرارات وآثارها العميقة على الحقوق و الحريات .

ما تمت كتابته لم يكن حكاية من نسج الخيال ، ولا محض تأملات قانونية تلقى على ورق بارد ، بل هو انعكاس أمين لواقع مؤلم تجري فصوله تحت سمع و بصر القانون ، و هي وقائع حقيقية ، لا تروى للتأثير ، بل للتنبيه ، لأن ما يحدث من تشهير بأناس معلومين ، لا لجرم ثبت ، بل لموانع قهرية منعتهم من الحضور ، يُعد انتهاكاً صارخاً لروح العدالة ، وجرحاً نازفاً في كرامة الإجراءات ، حين يتم نشر اسم متهم معروف العنوان و الوكيل ، و لا يُمنح حتى فرصة الاستدعاء و لو بالهاتف ، فإن القانون لا يطبق ، بل يُستغل ، و العياذ بالله .

لابد من إعادة ضبط بوصلـة الإجراءات الجنائية في كافة الأروقة العدلية ، خاصة ما يتصل بالإعلان عن المتهمين بالنشر ، و قد بات هذا الأمر ضرورة لا تحتمل التأجيل ، ويجب أن تستكمل الإصلاحات القانونية بإصلاح ((الكوادر)) التي تتولى تنفيذ القانون غبر آبهة بمآلات الاثار التي تخلفها قراراتهم ، و كما يجب تدريب هذه الكوادر على فهم الحكمة من النصوص ، لا الاكتفاء بظاهرها ، فالمعادلة الأخلاقية و القانونية يجب أن تظل راسخة و هي (كل متهم بريء حتى تثبت إدانته) ، و هذه الإجراءات التي تمس سمعة و كرامة المتهمين لا يجوز أن تدار بخفة أو بدافع خفي إصتصنعه التحري لأسباب غير معلومة ، و عمد على إخفاء معلومات مفتاحية ، و لكنها كانت واضحة للجميع و سنعلنها للملأ لاحقاً .

و الله من وراء القصد و هو الهادي إلى سواء السبيل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
سياسة الخصوصية