اعمدة الرأي

☘️🌹☘️ *همس الحروف* *العاصمة بعد غياب سكانها ، وأزمة العقود الإيجارية في زمن العودة ، بين نصوص القانون وروح العدالة* ✍️ *د. الباقر عبد القيوم علي*

متابعة:اللحظة نيوز

نحن في كل يوم نلوح بالتفاؤل مع بشائر انتصار القوات المسلحة ، و لكن سكان العاصمة نسأل الله أن يكون في عونهم ، لأنهم سيعانون بعض الشيء ، و يجب عليهم أن يدركوا أن الخرطوم التي تركوها ليست هي الخرطوم التي سيعودون إليها ، و هذا واقع لا مفر منه ، فالمكان تغير ، و الناس تبدلت ، والعمران خضع ليد الحرب و العابثين ، و هذه التغيرات التي طرأت لم تبقي من المدينة إلا أسمها ، فمنازل المالكين ستنتظر أصحابها ، و لو على أنقاض ، أما المستأجرون ، فإن عودتهم محفوفة بعواصف لا تبدأ بالسكن و لا تنتهي بالرزق ، أولى أزماتهم تبدأ بسؤال مربك يجب أن يتحمل تبعات ذلك كل مستأجر ، و هنالك سؤال جوهري و هو : هل العلاقة الإيجارية ما زالت قائمة أم طواها الغياب ؟ ، و هل سيحتكم فيها إلى سطوة القانون الجامد ، أم إلى روحه التي تراعي العدالة ، و ظروف الناس ؟ ، و هل نحن سنستطيع كمجتمع ، و قضاء ،و مؤسسات دولة أن نعبر هذه المرحلة بوعي تشريعي مرن ، أم سنصطدم بجدران النصوص التي لم تكتب لحرب و لا لمهجرين؟ ، ثم كيف يطالب المستأجر بالوفاء ، و هو بلا عمل في عاصمة فقدت بنيتها التحتية ، و مصدر رزقها ، و إيقاعها القديم ؟، إنها أسئلة لا بد من طرحها بجرأة ، لأن القادم لن يحتمل المجاملة أبداً ، و لن تحل هذه المسائل إلا برؤية قانونية تستوعب ما مضى و تفتح لما هو آت .

في ظل الواقع الراهن ، حيث لا تزال العاصمة الخرطوم و كذلك مدينة مدني و كثير من الأماكن خالية من مظاهر الحياة الطبيعية ، و مع ذلك هنالك دعوات من الدولة للعودة الطوعية ، إلا أن الخرطوم تختلف كثيراً عن بقية الاماكن ، و هنا يثور التساؤل حول لحظة بدء الالتزام الإيجاري مجدداً (عقد الإيجار) ، فهل تعتبر العودة الطوعية بمثابة استئناف فعلي للمنفعة ، أم أن هنالك معيار إستحقاق للأجرة يرتبط بواقعية الانتفاع لا بالإعلانات الرسمية ، و إذا كان المنتفع غائباً عن البلد هل تظل الأجرة معلقة أم تكون مستحقة لصاحب العين المؤجرة ، و هل المستأجر الذي غادر بيته مكرهاً ، أو مهاجراً ، أو لاجئاً يعد في حكم المستفيد من العين المؤجرة ما دامت أسباب المنع قائمة ، و لو تم إعلان العودة الطوعية ، فالدعوة وحدها لا تحيي العقد إن كانت المنفعة لا تزال مستحيلة أو محفوفة بالمخاطر ، و من ثم فإن إستحقاق الأجرة لا يبدأ من تاريخ الإعلان السياسي ، أم باليوم الذي يمكن فيه للمستأجر أن يعود بأمان إلى العين و يستوفي منفعتها على وجه فعلي ومطمئن بدون خوف ، و هل إلى حين أن يتحقق ذلك يبقى إلتزامه بالأجرة معلقاً ، أم مرفوضاً ، إلى وقت انتظار تهيؤ الظروف التي تمكنه من التمتع بالعقار كما اشترط العقد و أقره القانون ، كلها أسئلة سيواجهها الجميع ، و إذا كان المستأجر ليس لديه الرغبة في الرجوع إلى العقار أو الإستفادة منه ، فعل لصاحب العقار الحق في المطالبة بالأجرة ؟ ، و لن يتحقق ذلك إلا بعد إعلان الدولة وقف العمليات الحربية ، و لكن في حالة رجوع الناس المتقطع لمنازلهم المستأجرة ، فهل يمكن الرجوع دون الحاجة لإخطار أصحاب العقار بانهم رجعوا إلى منازلهم . و هل هنا يتوجب عليهم دفع القيمة الإيجارية د ، و هل بعد جحيم التضخم ستكون القيمة الإيجارية كما كانت عليه قبل الحرب ؟ .. كل هذه الإشكالات تحتاج إلى قراءات متأنية تراعي حقوق الجميع ، مع النظر بعين الإعتبار إلى الظروف التي ألمت بالطرفين .

و كذلك هنالك إشكال يجب وضعه في الإعتبار و هو إذا طال غياب المستأجر عن العين المؤجرة (البيت) أو (محل العمل) ، و لم تكن نية العودة واضحة لخوفه من المجهول ، أو تحت الضغوط النفسية لم يبد رغبتة الصريحة في استئناف الانتفاع من العقار ، وبقيت العين خالية لا نفع منها ولا أجرة تدفع لصاحب العقار الذي بلا شك سيثقله الضرر و الانتظار ، فهل هنا يجب عليه أن سيتمسك بحقه في فسخ العلاقة الإيجارية و فق ما يقره القانون من توازن وعدالة ، أم لا يجوز له ذلك في ظل قهرية الظروف ، و هل يمكنه أن يقوم بتأجير العين و لو لفترة مؤقته إلى حين رجوع المنتفع الاول ما دام العقد الأول قائماً ،و لم ينقض بحكم أو اتفاق ، فهل في هذه الحالة يحترم حق صاحب العقار و يهدر حق المستأجر ، و في حالة إذا تبين أن المستأجر قد هجر العين دون عذر مشروع ، مع قدرته على العودة ، أو ظل ساكتاً عن الرد رغم إنذاره ، فهل سيكون التعامل مع العقد في هذه الحالة بروح القانون و مقاصده و يمكن أن ينحل من تلقاء نفسه و يعود للمؤجر حق التصرف في ملكه دون شبهة تعد أو إخلال بالعقد ، لأن الغاية من الإجارة ليست حفظ المستندات ، بل تبادل المنافع ، فإذا غابت المنفعة و سلب المؤجر عائدها ، فلا يعقل أن يحبس ملكه لمستأجر غائب .

كل هذه الأسئلة ليست من باب التنظير ، بل هي تساؤلات مشروعة تنبع من عمق الأزمة ، و تلامس واقعاً ستعيشه آلاف الأسر العائدة إلى عاصمة لم تعد كما كانت في السابق ، و ستطفو على السطح مشكلات حينما تبدأ محاولات الاستقرار ، وستنبري هذه المشاكل بوضوح في العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين ، في ظل فقدان العمل ، و انهيار البنية التحتية ، وضبابية الوضع القانوني ، و من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى دراسة هذه الإشكالات على المستويين الاجتماعي و القانوني ، و ليس من باب الردع أو الخصومة ، بل من أجل الوصول إلى حلول مجتمعية رشيدة ، تراعي الظروف ، و تحفظ الكرامة ، و تقلل من اللجوء إلى المحاكم التي ستكون بدون شك مثقلة بهذا النوع من النزاعات ، فالعدالة ليست دائماً في سوح المحاكم ، بل كثيراً ما تبدأ من وعي المجتمع ، و من إرادة شعبية جماعية تعلو فوق الضرر الفردي ، و تغلب روح التسامح على نصوص قد لا تحس بالكارثة ، و لا تحسن قراءة المشكلة لأنها كتبت في زمن غير هذا الزمن و ظروف غير هذه الظروف .

و الله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
سياسة الخصوصية