
لم أكن ناقلًا، بل كنت شاهدًا… عشت لحظة السقوط، وعاينت فجر التحرير، لا من خلف المكاتب، بل من خندق الكلمة، عبر صحيفتنا “صوت الجزيرة” التي لم تكن ورقًا يُوزَّع، بل راية كرامة مرفوعة، تهتف باسم الإنسان والأرض
كان اللقاء الأول مع والي الجزيرة، الأستاذ الطاهر الخير، في منزل والي القضارف الأسبق، برفقة الأخ جلال. هناك طُرح السؤال الجوهري بلا رتوش: لماذا سقطت ود مدني؟
وكانت الإجابة مختلفة… رجل لم يهرب من المسؤولية، ولم يغرق في تبرير الفشل. كانت رؤيته واضحة كحد السيف.
ومنذ ذلك اليوم، لم يكن بيننا وبينه إلا الوطن. تكرّس التواصل، وتعزز بعد صدور العدد الأول من “صوت الجزيرة”. لم يرسل تهنئة مجاملة، بل برقية امتلأت بروح الامتنان، لا للصحيفة، بل للموقف، للانحياز الصريح لقضية الأرض والعِرض.
فتحنا صفحاتنا للمقاومة، وكتبنا عن جراح مشروع الجزيرة بلا خوف، بلا حسابات. لم نبحث عن نجومية، بل عن بعث… عن إحياء ما حسبه البعض قد مات.
في عز الفوضى، كان الطاهر الخير في المناقل، العاصمة المؤقتة، ومعه أبناء الجزيرة الأوفياء، رصوا الصفوف، وصاغوا برنامجًا من نار وحديد:
شقٌّ يقاتل… وشقٌّ يعيد بناء ما حطّمه العدوان.
تحملت المناقل ما يفوق طاقتها، استقبلت النازحين، حملت الوطن على كتفيها، لكن لم تنحنِ… بل نهضت كالجبل.
أدار الوالي المعركة ببصيرة، فكان الدعم يتدفق من رجال المال والبرّ، لا بالشعارات، بل بالعطاء الصامت.
وحين نادت مدني… لبّوا النداء.
دخلها الوالي في مقدمة الصفوف، من محور الحاج عبدالله، وكانت الهتافات تهدر:
“مدني جوا!”
لكن معركة التحرير لم تكن سوى بداية. فالمعركة الأصعب بدأت بعدها:
معركة البناء.
فوق الأنقاض، نُصبت ألواح الشمس.
أُضيئت القرى بالكهرباء.
عادت المستشفيات للحياة.
أُطلق التأمين الصحي بتغطية قاربت الـ80%.
انتشر الأمن، وعادت النيابات والمدارس.
تم إعداد الجلاس مع “جياد”، واستُكملت امتحانات الشهادة.
كل ذلك جرى بخطى واثقة، لا بضجيج إعلامي.
وفي الصحة… سال العرق، لا الحبر.
كان الوالي هناك، بنفسه، يشرف، يزور، يعالج التحديات على الأرض، لا على الورق.
وراءه رجال ونساء… من بينهم عاطف أبو شوك، وزير المالية، الذي وقف حيث يهرب الآخرون، قدّم حيث عزّ المال، وكان سندًا في كل خطوة.
هذا ليس مديحًا… بل اعتراف. لسنا في مقام تزيين الوجوه، بل في لحظة نزاهة تاريخية.
من أحسن نقول له: أحسنت. ومن أنجز نقول له: شكرًا.
الطاهر الخير… قاد واحدة من أعقد مراحل الجزيرة، بصمت العارف، وهمة الجندي، لا بهرج السياسيين.
وهذا كتابه… مفتوح أمام الجميع. فهل نقرأ؟
هل نعترف؟
هل نحمد الله أن قيّض لهذه الولاية رجلًا كهذا في زمن المحن؟
من تحت الرماد… نهضت الجزيرة.
وما زال الوعد أخضر…
وما زال النبض ينبض.