من دفتر الفن السوداني د. عبد العزيز أحمد سعد التاج مكي .. نغم الهجرة وذاكرة الوطن
متابعة :اللحظة نيوز

ليس غريبًا أن يُجمع النقاد والمحبون على فرادة الفنان التاج مكي، فهو من أولئك المبدعين الذين تفتح لهم الذاكرة أبوابها
على اتساعها، كلما همّ سامعٌ أن يستدعي لحظة صفاءٍ أو شذىً من زمنٍ جميل.
لم يكن التاج مكي مجرد صوت جميل، بل كان مدرسة قائمة بذاتها في اللحن، والأداء، واختيار النصوص.
وحين يُذكر اسمه، يتداعى تلقائيًا صوت إسحق الحلنقي، هذا الشاعر الذي عرف طريقه إلى المجد عبر ألحان
وصوت التاج مكي، فقد كانت أغنية حبيت عشانك كسلا التي صاغها شعرا إسحق
الحلنقي ولحنها وغناها التاج مكي في عام 1970م .. كانت ضربة البداية والنقلة النوعية في مسيرة الحلنقي والتاج مكي.
غير أن التاج مكي لم يكن حاضنة لصوت الحلنقي وحده، بل أتاح الفرصة لعشرات الشعراء ليتنفسوا عبر صوته
ويصلوا للجمهور بأعذب الصور. شكّل مع الدكتور عز الدين هلالي، وكامل عبد الماجد، وعبد الرحمن مكاوي،
ومحمد عبد الله برقاوي، ومرتضى صباحي، وغيرهم، تحالفًا فنيًا مدججًا بالخيال، واللغة، والإحساس.
وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على وعي مبكر بالتعدد، وحسّ عالٍ بالمغامرة الفنية.
التاج مكي .. من الخرطوم إلى أبوظبي
وُلد الفنان التاج مكي بمدينة كوستي في عام 1953 من القرن الماضي وتشكل وجدانه الفني في بيئة غنية بالإبداع،
قبل أن يشق طريقه في إذاعة أم درمان، ويدخل البيوت السودانية بصوته الرخيم وشخصيته الهادئة.
كان التاج من أوائل الفنانين الذين التحقوا بمعهد الموسيقى والمسرح في بداياته، وهي تجربة صقلت أدواته الفنية،
لكنها لم تخرجه من إطاره الجوهري، ولا أخذته إلى تعقيدات لا تشبه ذوق المستمع السوداني.
فبقي مبدعا مخلصًا لـ”السهل الممتنع”، محافظًا على أصالة الغناء السوداني،
دون أن يقع في فخ التكرار أو الابتذال بل وجود قبولا وإعجابا كبيرا في الوسط الغنائي والجمهور.
عُرف عنه شغفه بالتوثيق، فقد سارع إلى تسجيل أعماله في الإذاعة، واهتم بجودة الإنتاج،
وهو ما جعل إرثه متاحًا للأجيال الجديدة، خلافًا لكثير من زملائه الذين طوت الرياح بعض أعمالهم في غياهب النسيان.
بل إن كثيرًا من أغنياته أُعيد غناؤها، أو نُسبت لآخرين، دون أن يفقد هو روحه السمحة أو إيمانه بأن الفن الحقيقي لا يضيع.
وهناك الكثيرون من الفنانين الشباب يرددون أغانيه حتي اليوم.
منح العطاء .. لا يحتكره
من طرائف مسيرته أن أغنياته لم تبق حكرًا عليه؛ بل قدمها بسخاء لفنانين آخرين، مثل زيدان إبراهيم (برانا)،
وعبد العزيز المبارك (صبرنا كتير على الأشواق). وبعضها سُلب منه دون إرادته (بدري من عمرك، الشمس، يا راجياني)، لكنه لم يضمر شيء، ولم يشكُ، بل واصل عطاؤه دون توقف، وكأنما النغم عنده نهر لا ينضب.
الهجرة .. والغربة النبيلة
في العام 1978م، حمل التاج مكي حقائبه وهاجر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل وواصل الغناء في حدود ما تسمح به ظروف الاغتراب. فغابت صورته عن المشهد الفني السوداني، لكنه ظل حاضرًا في القلوب . لم تتأثر محبته ومكانته الفنية، ولم ينطفئ أثره، بل أصبح جزءًا من وجدان من عاشوا تلك المرحلة. يُمكننا القول إن التاج مكي هو فنان “المسافة المحبوبة”؛ يشتاق الناس إليه كلما افتقدوا الزمن الجميل.
بين صوت الشعب وصوت الحنين
التاج مكي، فنان ذو أثر فني خالد لا يزول .. غنّى للحب وللوطن وللشجن الإنساني النبيل. وكلما استمعت إلى “أسأل العنبة” أو “صبرنا كتير”، أدركت أن هذا الفنان ليس مجرد مؤدٍ، بل هو ناقل للحنين، وصانع لزمنٍ لا يُنسى.
مكيّ الصوت والذاكرة
إن الحديث عن التاج مكي ليس حديثًا عن فنانٍ عابر، بل عن جزء من الذاكرة الوطنية والثقافية السودانية. فكل من مرّ بسنوات السبعينبات، وعاش في ذلك الزمان الزاهي الجميل كان التاج مكي مرافقًا له، بالصوت، والصورة، والنغم الحنين. ويبقى اليوم درسًا للأجيال الجديدة، في الصدق الفني، والتواضع الإنساني، والوعي بقيمة الإرث.
أطال الله في عمره، ومتّعه بالصحة والعافية، وبارك في غربته النبيلة التي رفدت بها روح وطن ووجدان أمة.