اعمدة الرأي

همس الحروف|| بياض الزي في عتمة الأيام

و العقيد شرطة عبد الناصر حسن أحمد عوض الله ، نجم أضاء شمال السودان

*همس الحروف*

✍️ *د. الباقر عبد القيوم علي*

*بياض الزي في عتمة الأيام ، و العقيد شرطة عبد الناصر حسن أحمد عوض الله ، نجم أضاء شمال السودان*

في هذه الولاية التي إعتادت أن تغفو على أنفاس النيل و تستيقظ على شقشقة العصافير في مواسم الخير ، إلا أن هذه الحرب اللعينة خنقت أنفاسها حتي كادت أن تلفظ آخرها ، و لم يكن الظلام الذي حل بها مجرد عارض كهربائي فقط ، بل كان هناك شعور داخلي إنتاب جميع سكانها بأن النور هزمته الحرب ، و أنهم على وشك الاستسلام لليأس ، و كان هذا الأمر يعتبر اختباراً عسيراً لقدرة أهل الشمال على أن يكونوا شموعاً تمشي على الأرض … و في قلب هذا الاختبار الصعب ، حين طأطأت الأنوار رؤوسها حزناً على غياب التيار ، و إرتبكت الأماكن تحت وطأة الزحام بأهل الولاية و ضيوفها ، كان هناك من يشق عتمة المدينة بخيوط من الأمل و النظام و الابتسامة .

فشرطة مرور الولاية في دنقلا لم تكن جزءاً من هذا المشهد فحسب ، بل كانت تمثل روح المشهد بأدائها المتميز ، و هم يرتدون البياض لا للمظهر فقط ، و لكن كان كبيانٍ رمزي ضد السواد الذي حاول أن يلف عنق الولاية ، فتحركوا عند الحاجة و الطلب بإيقاع منضبط ، و كأنهم فرقة موسيقية تعزف مقطوعة النظام في زمن الفوضى ، يرتبون لنا كل شي ، كيف نسير و أين نقف فكانوا حاضرين في كل مكان ، و عند كل إشارة ، و مع كل صافرة كانوا يرسلون لنا رسالة مفادها ، نحن هنا (الكتيبة البيضاء) ، و على الرغم من أن صدورهم كانت مكللة بأنفاس مثقلة ، و كانت أشعة الشمس الحارقة تلفح وجهوهم ، إلا أنهم كانوا كما في قصص الخيال ، جنوداً من نور ، يرسمون بإنسياب خطواتهم خارطة الأمان في الشوارع المختنقة ، ويبعثون برسائل الطمأنينة في إشارات أيديهم المدروسة بعناية ، و كانوا هناك عند التقاطعات المتعبة ، و في قلب السوق المزدحم بالباعة و المارة ، و السيارات المصفوفة على جنبات الطريق معرقلة للحركة .. لا ينامون إلا عندما تنام المدينة مطمئنة .

و وسط هذا المشهد المشحون ، كان هناك قامة شامخة لم يراها الناس بطولها الفارع فقط ، بل بظلال قيادتها الحكيمة التي تبثها في من حولها ، فكان العقيد شرطة عبد الناصر حسن أحمد ، قمة و قامة تتجاوز الهملايا سموقاً ، و تستقر في الأعماق عند كل الذين تعاملوا معه . لم يكن قائداً كما غيره يجلس خلف المكاتب ، بل كان أول الواصلين إلى الميدان ، و آخر المنصرفين منه ، فهو صاحب المبادرات و الشراكات المعروفة ، لا لضبط حركة إنسياب المرور فقط ، بل كانت لإصحاح و إصلاح البيئة ، و التأريخ شاهد على ذلك ، لم تكن قيادته صاخبة ، و لكنها كانت واضحة ، و لم يملأ المكان بكثير الكلام ، بل كانت تزدحم الأماكن بأفعاله ، و هذا هو الرجل الذي إلتقت فيه قوة القيادة بحكمة الظروف ، و إستطاع أن يطوع الأزمة التي فرضتها الحرب لصالح الجميع ، فحوّل المحنة إلى منصة ، و دمج الوافدين من رفاق المهنة في منظومة إنضباط فريدة ، لانه كقائد فذ عرفته الميادين يعرف أن الحرب لا تنتصر بالبندقية فقط ، بل بالصبر ، و العزيمة ، و التنظيم ، و حسن التقدير ، و التدبير .

لم يكن قائداً تقليدياً ، بل كان أشبه بما يكتبه الشعراء حين يتغنون بالرواد ، و أشبه بما ترسمه الأحلام حين تحن إلى نظام في وسط العدم ، ترك في كل تقاطع في المدينة بصمة ، و في كل زاوية ظل جندي من جنوده يذكره الناس بكل فخر ، فالعقيد عبد الناصر قائد لم يكن يصرخ ، و لكنه كان مسموع الكلمة ، و لم يكن يفرض ، و لكنه كان يطاع بكل حب ، و لم يكن يترأس ، بل كان يقود رفاقه وهو في وسطهم ، يتقدمهم في النوازل ، و يقدمهم في الأماكن التي تشرف ليكونوا كبار في عيون الناس ، محباً لزملاء المهنة ، و هم يبادلونه الإحساس بالإحساس ، و لا يهرقه حرور شمس ، و تتعبه مشقة عمل .

و بينما يسدل الستار على آخر فصل من فصول الضوء في إدارة مرور الولاية الشمالية ، و نحن نودع سعادة الأخ عبد الناصر حسن و هو يغادرنا إلي محطة أخرى ، حافظين له كل ما قدمه للولاية و شاكرين له على جهده الذي لم يبخل به علينا ، و تصافحه اليوم دنقلا مودعة له ، ليست بيد واحدة ، بل بكل القلوب التي أرشدها ، و بكل الأرواح التي لم تمسها الحوادث بفضل توجيهاته ، و كل السيارات التي مرت و ترخصت بأمان تحت إشرافه ، سيغادرنا إلى خرطوم التحدي و الذكريات ، تاركاً لنا قصته المليئة بالتحدي ، يرددها الناس في إشارات المرور و في أماكن الإختناقات .

و نتطلع كما يتطلع الأمل في فجر جديد ، و نستقبل سعادة العقيد شرطة هيثم أحمد البشير ، لا كخلف عادي له ، بل كامتداد لذلك النسق النبيل ، و نرجو له التوفيق و السداد ، ونعول عليه أن يحافظ على نبض قارعة الضوء ، و أن يزيد ذاك الضوء إشراقاً ، فسعادة الاخ هيثم من ذات المدرسة ، و من ذات العزم ، نرحب به كما تستقبل الطرق العتيدة خطى الواثقين ، و نأمل أن يضيف ، لا ليغطي على من سبقه ، بل ليكمل السير و المسير ، ويكتب فصلاً جديداً من كتاب الأمان في الولاية .

التحية و التقدير لكل من يحمل صافرة و كأنها نايٌ ، و لكل صاحب إبتسامة و كأنها شعار ، و لكل من وقف طويلاً على رجليه و كأنّه يؤدي صلاة شكر ، فالتحية لكا أفراد الكتيبة البيضاء ، فالضوء في دنقلا لا يولد من التيار فقط ، بل من عزيمة رجالها ، و كانت شرطة المرورها عند العهد ، و الوعد و كأنها عبارة عن محطة لتوليد الطاقة ، يقودها قائد قرأ العتمة جيداً ، وأنار المدينة بنظام أبيض كروحه و زيادة .

أسأل الله لك أخي عبد الناصر حسن التوفيق و السداد في حلك و ترحالك .*

و الله من وراء القصد و هو الهادي إلى سواء السبيل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
سياسة الخصوصية